حظي الشعر بأهمية كبيرة ومكانة عظيمة، عند العرب عامة واللغويين والأدباء والنقاد خاصة. كيف لا ؟ وهو (ديوان العرب)، وسجل مآثرهم وأيامهم وآمالهم وآلامهم.
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "الشعرُ علم قوم لم يكن لهم علمٌ أعلمَ منه"([1]).
وقد تجلت أهمية الشعر عند العرب في نواح عدة، يأتي في مقدمتها اجتهادهم الشديد في إيجاد تعريف للشعر، تعريف يحدده ويوضح ماهيته. ونجد هذه التعريفات في كتب التراث اللغوي والنقدي.
أولاً: تعريف الشعر من خلال منظور أهل اللغة في بعض المعاجم اللغوية:
قال (الأزهري): "الشعر: القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها، وقائله شاعر؛ لأنه يشعر ما لا يشعر غيره، أي يعلم"([2]).
وقال ابن منظور: "الشعر: منظوم القول غلب عليه؛ لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعراً "([3]).
وقال الفيومي: "الشعر العربي هو: النظم الموزون، وحده ما تركّب تركباً متعاضداً، وكان مقفى موزوناً، مقصوداً به ذلك. فما خلا من هذه القيود أو بعضها فلا يسمى (شعراً) ولا يُسمَّى قائله (شاعراً)، ولهذا ما ورد في الكتاب أو السنة موزوناً، فليس بشعر لعدم القصد والتقفية، وكذلك ما يجري على ألسنة الناس من غير قصد؛ لأنه مأخوذ من (شعرت) إذا فطنت وعلمت، وسمي شاعراً؛ لفطنته وعلمه به، فإذا لم يقصده، فكأنه لم يشعر به"([4]).
وقال الفيروز أبادي: "الشعر غلب على منظوم القول، لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان علم شعراً "([5]).
ومن خلال هذه التعريفات التي قدمتها بعض كتب اللغة نستطيع تحديد الملامح الأساسية له، وأول ما يلفت انتباهنا ذلك التأكيد والإصرار على صفة (النظم)، وتخصيصها بالشعر.
والوزن والقافية هما ركيزة النظم وأُسِّه، ولا شك أن الإيقاع الموسيقي الناتج عنهما هو ما يعطي للشعر خصوصيته، ويمنحه لذته وجماله المتميز. ولعل تحليل كلمة (النظم) لغوياُ يعطينا مدى الجمال في هذه الصفة الشعرية. فالنظم لغةٍ: "التأليف، وضم شيء إلى شيء آخر"([6]). والذهن يتجه ـ حين تُسمع هذه الكلمة ـ إلى صورة جميلة تستدعي لآلئ انتظمت في عقدٍ يلم نثارها، ويبرز جمالها، ويجسِّده، ويحفظه أيضاً. كذلك الكلمات تنتظم في شكل معين هو (الشعر)، فتكون أبهى وأوقع في النفس.
ولهذا فضل (ابن رشيق) الشعر على النثر، حتى لو اتفقا في القدر والقيمة؛ لأنه يرى أن كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه. ويضرب مثلاً على هذا بالدر الذي هو (أخو اللفظ) ـ كما يعبر ـ حيث إنه إن كان منثوراً، فإنه لا يؤمن عليه، ولا ينتفع به، ولكنه إذا نُظم، كان النظم أصون له من الابتذال، وأظهر لحسنه مع كثرة الاستعمال. وكذلك اللفظ، فإن وقوعه في النثر يبدده في الأسماع، ولا يستقر منه إلا المفرطة في اللفظ. فإذا أخذه سلك الوزن والقافية، تألفت أشتاته، وازدحمت فرائده وبناته واتخذه اللابس جمالاً، والمدخر مالاً... إلخ([7]).
إذاً فللنظم أثره الجمالي، وله أثره النفعي أيضاً في كونه يؤدي إلى سرعة حفظ الشعر؛ ولهذا فقد كان سجل العرب، تغنت فيه بمكارم أخلاقها، وافتخرت بطيب أعراقها، وكان ديواناً سجل فيه تاريخها، وجعل وسيلة تربوية لأبنائها تدلهم على محاسن الشيم([8]). وهذا يدل على قيمته عند العرب، إذ إن العرب لما رأت "المنثور يندُّ عليهم، ويتفلت من أيديهم، ولم يكن لهم كتاب يتضمن أفعالهم، تدبروا الأوزان والأعاريض، فأخرجوا الكلام أحسن مخرج بأساليب الغناء، فجاءهم مستوياً، ورأوه باقياً على مر الأيام([9]).
ولأهمية النظم؛ جُعل من مراتب الشعر العالية ـ كما يقول (أبو هلال العسكري) متحدثاً عن الشعر: "فمن مراتبه العالية التي لا يلحقه فيها شيء من الكلام: النظم الذي به زنة الألفاظ، تمام حسنها "([10]).
وانطلاقاً من أهمية النظم، كانت أهمية الوزن والقافية، التي اتضحت من خلال التعريفات السابقة.
فالوزن "أعظم أركان الشعر، وأولاها به خصوصية، وهو مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة "([11]). وهذا ما دعا علماء العربية إلى الاهتمام بعلم العروض والقافية، والتأليف فيه، والإسهاب في توضيح البحور، وعيوب الأوزان والقافية؛ حرصاً على سلامة البنية الموسيقية الأساسية في الشعر.
ونواصل المسيرة مع التعريفات، لنلحظ إضافة جديدة عند (الفيومي)، تثبت لنا أهلية النقد في كتب التراث، ونظرته العميقة للشعر المبتعد عن السطحية. فمن حدود الشعر: "التركّب المتعاضد"، والتركب المهلهل الضعيف للقصيدة يخرجها عن الشعر ـ في رأيه ـ وكون التركب متعاضداً يعني أن كل أجزائها ببعض. ولا شك أن هذه إشارة، أو خطوة نحو إدراك الوحدة العضوية في المنظور العربي القديم للشعر.
ومما تكرر في التعريفات السابقة الاعتراف بجانب الفطنة والمعرفة عند الشاعر، مما يميزه عن غيره. فقولهم: (كل علم شعر) إضافة جميلة، تدل على الدقة اللغوية[12]. فكل لون معرفي إنما هو شعر؛ لأن أداته وبابه الشعور والعلم([13]). ولكن قطبي منظوم القول (الوزن والقافية) أثقلنا كفته، فغلبت كلمة (شعر) عليه، وزادته شرفاً.
وبالإضافة إلى ذلك؛ فإن الشاعر يتميز بأنه (يشعر ما لا يشعر غيره)، وهذه السمة المتفردة رسخت في نفس كل مطَّلع على الشعر، متذوق له، منذ أقدم عصوره حتى عصرنا هذا. فكثيراً ما تعترينا مشاعر نفسية غريبة تجاه مواقف معينة، قد لا نستطيع أن نجد لها تفسيراً أو تحليلاً، ونفاجأ بقصيدة تحمل نفس المشاعر، وقد اتخذ لها الشاعر مساراً في التحليل والتعليل، يدفعنا لأن نهتف في أنفسنا: نعم هذا ما كنا نحس به بالفعل، وهذه التفسيرات هي ما تقنعنا حقاً.
ومثال آخر: كثير من مظاهر الطبيعة قد لا تثير فينا أي اهتمام، ولكن قد نتأمل قصيدة في وصفها تجعلنا نبدو أكثر اهتماماً، وتعود هذه المناظر من جديد، لتهز فينا أسمى المشاعر.
وأمرٌ آخر يدل على الفطنة الشاعرية: ألوان المجاز المختلفة، فحين يحسن الشاعر المبدع استخدامها، نحس باقتراب العلاقات بين أمور كنا نظنها متباعدة، ولكنها الفطنة ودقة العلم.
يقول (ابن رشيق): "وإنما سمي الشاعر شاعراً؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر، كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن، وليس بفضل عندي مع التقصير"([14]).
وهذا الإدراك الدقيق لهذه السمة في الشاعر أدى إلى اشتراط (الفيومي) لحد (القصد والنية) في الشعر. إذاً فالشاعر لا ينطق إلا متعمداً قاصداً؛ فهو يشعر أولاً ثم يقول الشعر. وما جاء – كما يقول (الفيومي) متزناً في القرآن أو السنة أو كلام الناس لا يعد شعراً، ولا يعد قائله شاعراً ([15]).
وهكذا تبين لنا الإطار العام في تحديد الشعر في كتب التراث اللغوي، التي اهتمت بالوزن والقافية، إضافة إلى تماسك أجزاء القصيدة، كما وجدنا التفاتةً دقيقة إلى جانب الفطنة والعلم ودقة المعرفة عند الشاعر.